تؤكد سينما داوود عبد السيد وعبر رحلة أفلامه التسعة أنها من الناس وإلى الناس تعود إلى أنها سينما ورغم تطورها التقنى والكتابى إلا أنها لم ترتدى قبعة الخواجة ولم تمارس التغريب ولم تنفصل عن جمهورها تحت داعى التجريب والعمق واللهاث المحموم عبر جائزة تمنحها لجنة تحكيم فى مهرجان ما إنها سينما بحثت عن الدفء فى أحضان جمهورها بحثت عن الغوص فى أعماقه وأن تعبر عنه وتمثله فى واقعية جعلت من صانعها معبراً عن أحلام أجيال عاشت فى مصر ربما عانت من انكسارات لكنها عاشت و قاومت فى سخرية مريرة ساحرة.
قاوم داوود وجيله جنون السينما وجموحها بعيداً فى موضوعات ذاتية جداً ليقدم سينما واقعية شاعرية بسيطة رغم العمق والفلسفة الظاهرة فى كل مشهد يقدمه داوود.
وتبدو هذه الملامح والسخرية المريرة القادمة من أقسى همومنا والتى تذوب مع أصفى ضحكاتنا فى بحر الدموع.
لا يمكن فصل رحلة داوود ومسيرته عن مجموعة من هذه الأفلام التسعة وفى السطور القادمة نحاول الغوص فى أعماق هذه الفكرة.

كانت بداية رحلة داوود السينمائية كمخرج ورب لعمل كامل عام ١٩٨٥ وفيلمه “الصعاليك” هذا الفيلم الذي لعب بطولته نجمين شكلا حجراً كبيراً فى زاوية أفلام موجة الواقعية الجديدة هما نور الشريف ومحمود عبد العزيز، وقدم الفيلم الذى كتبه وأخرجه داوود محاكمة حقيقية وقاسية لجيل الانفتاح وجيله الذى كسرته النكسة ولم يلتئم التئاماً كاملاً أبداً بعدها بل التئم التئاماً ترك أثره المشوه فى كل أفلام داوود ورفاقه عاطف الطيب ومحمد خان. وخصوصاً مع الضربات المتلاحقة من النكسة للنصر الذى سرقه تجار الانفتاح لمعاهدة السلام التي قضت على حلم جيله في الامجاد العربية.
وفى فيلمه الثانى “البحث عن سيد مرزوق” يعود للتعاون مع نور الشريف ويفوز الفيلم بجائزة الهرم الفضى فى مهرجان القاهرة السينمائي الدولى.
وفى العام نفسه يتعاون مع بطله الثانى فى “الصعاليك” محمود عبد العزيز مقدماً واحداً من أيقونات السينما المصرية، والتى سخر فيها من الواقع المرير وقدم تشريحاً عميقاً للحارة المصرية، وكيف توحشت الطبقة التى تملك المال وقررت أن تسلب المنزل والمحل وكل ما كان يدفئ بطله الأعمى فى رحلته وسط قسوة الواقع المرير؟، فى ظل رغبة الجيل الجديد فى الهروب إلى الخارج وإلى الحلم الأمريكى تحديداً.

وهو الحلم نفسه الذى قدمه فى فيلمه الرابع وهو الوحيد الذى لم يكتب قصته واكتفى بإخراجه فيلم “أرض الأحلام” من خلال بطلين هما فاتن حمامة التى تهرب من الحلم الأمريكى والساحر الساخر يحيى الفخرانى، والذى تدور أحداثه فى ليلة كألف ليلة، لكنها تحمل رسالة مفادها أن أرض الأحلام هى مصر وتقرر البطلة البقاء متحدية الواقع المرير وتآكل طبقتها المتوسطة.
الفيلم السادس له هو الباحث والمؤكد لمدرسة داوود هو “أرض الخوف” والذى قدمه عام ٢٠٠٠ والذى شكل رحلة أسطورية واقعية لبطله يحيى أبو دبورة، وهى الرحلة التى وصفها بأنها عهد ثورة يوليو مع رحيله، وكيف تركتهم بعد أن ورطتهم فى الحلم و فى الرحلة نفسها؟، وهو التعاون الوحيد بين أحمد زكي و داوود ومن سخرية القدر وربما تأكيد أن داوود من الناس وإلى الناس أن داوود لم يرسل هذا الفيلم للمنافسة فى مسابقة الأوسكار كأفضل فيلم أجنبي بعد ترشيحه من قبل مصر لعدم وجود ميزانية إضافية لتحسين جودة الصوت طبقاً لتصريحات صحفية لداوود وقتها.
بعدها قدم فيلمه “مواطن ومخبر وحرامى” عام ٢٠٠١، والذى قدم وبوضوح فلسفة ورؤية داوود للمجتمع المصرى فى تشريح دقيق لكل تناقضاته فى علاقة غريبة بين الثلاثة رافعاً شعار “فيها ايه لو نبقى واحد ونبدل الأسامي واسمع وافهم كلامى”.
إن سينما داوود عبد السيدهى سينما غاصت فى جلد المصريين لم تنفصل عنهم ولم تسعى لشئ رافعة شعاراً واحداً فقط من الناس وإلى الناس نعود. بحثت عن أحضان جمهورها لا لاسترضائه بل لطرح اسئلة تخصه ومشاركة همومه المشتركة معه. واستطاعت رغم جماهيريتها أن تخلق لغةً فنيةً وعالماً سينمائياً شديد الخصوصية يحمل مشروع فكرى و سينمائى.
وليد أبو السعود – صحفى وناقد فنى

