تحل علينا اليوم الجمعة ذكرى وفاة القارئ الشيخ مصطفى إسماعيل، أحد أعلام التلاوة في تاريخ الأمة الإسلامية، ذلك الصوت الذي لم يكن مجرد نغمٍ عابر، بل مدرسةً متكاملة في فن التلاوة وتجربةً روحيةً استثنائية، استطاع أن يقود القلوب إلى حب القرآن، ويستقطب السامعين من كل الفئات والثقافات، حتى اقترن اسمه بثلاثيةٍ فريدة: جمال الصوت، وعمق الأداء، وقدرة فائقة على مخاطبة الوجدان.
وُلد القارئ الشيخ مصطفى محمد المرسي إسماعيل في قرية ميت غزال بمحافظة الغربية، في السابع عشر من يونيو عام 1905، ونشأ في أسرة ريفية متوسطة، كان لجده ولعٌ خاص بكتاب الله أورثه لوالده الفلاح البسيط، فألحقه بالكتاب وهو في الخامسة من عمره، حيث لفت الأنظار بسرعة حفظه وحلاوة صوته المبكرة، ولم تخلُ طفولته من شقاوة محببة، إذ كان كثير الهرب من الكتاب برفقة زميله إبراهيم الشال، قبل أن يتوب عن ذلك خشية العقاب، ويستقيم في الحفظ حتى أتم القرآن الكريم كاملًا قبل أن يبلغ الثانية عشرة.
أثناء تلاوته في الكُتّاب، استمع إليه مصادفة أحد كبار مشايخ علوم القرآن، فاندهش بأدائه، وأبلغ جده أن لحفيده شأنًا عظيمًا إذا أتقن أحكام التلاوة والقراءات، وعلى إثر ذلك التحق بالمعهد الأحمدي الأزهري بطنطا في سن الرابعة عشرة، حيث برزت موهبته الفطرية حتى استمع أستاذه إلى ثلاثين ختمة إعجابًا بصوته وأدائه، وكان خلال دراسته يقرأ بالجامع الأحمدي فتنجذب إليه الأسماع، وتتسع شهرته في القرى والمواسم، بينما كان جده يوصيه قائلًا: “لا تهتم بالأجر كثيرًا أو قليلًا، ويكفي أنك تذكر الناس بكتاب الله”.
لم تكن مسيرته خالية من العوارض، فقد ألمّ به مرض حال دون إتمام الدراسة النظامية، لكنه اتجه إلى خدمة القرآن مكتفيًا بما حصّله من علوم الدين، وكانت ليالي المآتم في القرى المجاورة، ثم في طنطا، سببًا في ذيوع صيته حتى امتد من الأقاليم إلى القاهرة، وفي إحدى المناسبات جلس إلى جوار الشيخ محمد رفعت، وبعد أن فرغ الأخير من تلاوته، ترك المكان للشاب الصغير، فقرأ مصطفى إسماعيل قراءةً أبهرت الشيخ رفعت الذي هنأه وأثنى عليه، لتتشكل نواة جمهور واسع امتد لاحقًا في أرجاء الوطن العربي والإسلامي.
ولعبت الصدفة دورًا حاسمًا في مسيرته حين التقى بالشيخ محمد الصيفي في القاهرة وقرأ عليه سورة الفجر، فاستعذب صوته وطلب منه أن يلقاه في اليوم التالي، حيث كان من المقرر نقل احتفال المولد النبوي الشريف على الهواء من مسجد الإمام الحسين.
وتخلف الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي، فوجد المسؤولون أنفسهم في مأزق، عندها قال الشيخ الصيفي كلمته الشهيرة: “دعوه يقرأ على مسؤوليتي الخاصة”.
فكانت تلك التلاوة المباشرة شهادة ميلاد لشهرة عريضة، إذ قرأ الشيخ مصطفى إسماعيل نصف ساعة، ثم استمر حتى انتصف الليل وسط استجابة الجمهور، وكانت ليلة وصفها الشيخ نفسه بأنها “مباركة”.
لم يكد صوته يصدح عبر الأثير حتى بلغ القصر الملكي، فاستدعاه الملك فاروق وأصدر أمرًا ملكيًا بتكليفه قارئًا للقصر، وخصوصًا في ليالي القدر الرمضانية بقصري رأس التين والمنتزه، ليُعرف منذ ذلك الحين بـ”قارئ الملوك”، والمفارقة أنه كان آنذاك غير معتمد في الإذاعة، لكنه أصبح أول قارئ يُقبل دون اختبار تقليدي تقديرًا لموهبته الاستثنائية، ثم اعتمد رسميًا عام 1944م، وعُيّن قارئًا لسورة الكهف يوم الجمعة بالجامع الأزهر، فدخل صوته كل بيت يتلى فيه القرآن.
امتلك الشيخ مصطفى إسماعيل خامة صوتية نادرة من طبقة “التينور” تجمع بين القوة والنقاء، وتمنحه قدرة مذهلة على التحليق في طبقات الجواب بثبات مدهش، مع طول نفس لا يجهد، وكان سيد الارتجال بحق، يبدع من وحي الآيات وروح المناسبة، حتى قال عنه موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب إنه “المقرئ الوحيد الذي يصعب توقع نقلاته المقامية”، معتبرًا ذلك عبقرية يتدفق منها الابتكار، وكانت كوكب الشرق أم كلثوم من أشد المعجبين بتلاوته، وقال عنه الموسيقار عمار الشريعي: “لديه إعجاز في فنون الأداء، فيصنع ما لا نستطيعه نحن الموسيقيون، ولديه إمكانات غير مكررة”.
وبرع الشيخ مصطفى إسماعيل في “تطويع المقامات لخدمة المعنى القرآني”، فكان يعطي آيات الرحمة ما يناسبها من نغم، وآيات الوعيد والإنذار ما يوافقها من مقام، وهو من أبرز أساتذة فن الوقف والابتداء، مما منح تلاوته سلاسة ووضوحًا ينبعان من فهم عميق لكتاب الله، وكان يؤمن بأن “القرآن أُنزل للناس”، فكان يشترط حضور الجمهور في استوديوهات التسجيل ليكتمل البعد الروحي للتلاوة.
لم يقتصر حضوره على مصر، بل صار سفيرًا للقرآن حول العالم، فقرأ في أعرق المساجد، من المسجد الأقصى المبارك إلى مساجد دمشق وبيروت ومكة والمدينة، وسمعه الناس في باريس ولندن وميونخ وسان فرانسيسكو وكوالالمبور وأنقرة وإسطنبول وطهران.
نال أرفع الأوسمة، منها وسام الاستحقاق من مصر وسوريا، ووسام الأرز من لبنان، ووسامًا من الرئيس جمال عبد الناصر في عيد العلم عام 1965، وكان القارئ المفضل للرئيس أنور السادات، ورافقه في زيارته التاريخية إلى القدس عام 1977.
ظل الشيخ مصطفى إسماعيل محبوبًا من الملوك والرؤساء، ومعشوقًا للبسطاء، يقرأ في المساجد الكبرى والتجمعات الشعبية على السواء، حتى لقي ربه في السادس والعشرين من ديسمبر عام 1978.
ورغم الرحيل، ما زالت تلاواته تُتلى وتبكي وتلهم، شاهدة على مدرسة فريدة وتجربة إنسانية وروحية خالدة في ذاكرة محبي القرآن الكريم، وعلم من أعلام دولة التلاوة المصرية.
المصدر: أ ش أ

