يثير البرنامج الاقتصادى الذى أعلن عنه دونالد ترامب قلق الخبراء بكل ما يكتنفه من انعدام اليقين، حتى قبل معرفة الخطوط العريضة له، أو نطاقه، أو حتى جدوله الزمنى.. فهناك العديد من التحديات التي تواجهه من بينها الرسوم الجمركية، وتخفيضات الضرائب، والطرد الجماعى للمهاجرين غير الشرعيين.
وذكرت صحيفة ليبراسيون الفرنسية، فى مقال تحليلى، إنه يبدو أن المصدرين والبنوك المركزية والحكومات في مختلف أنحاء العالم في حالة من الفزع والترقب، بانتظار عاصفة اقتصادية محتملة قادمة من واشنطن، والتى قد تبدأ في الهبوب بقوة فى وقت مبكر من الأسبوع المقبل. فالجميع، من الصين إلى أوروبا، ومن كندا إلى أستراليا، ينتظرون القرارات التى قد يتخذها دونالد ترامب عندما يعود إلى البيت الأبيض في 20 يناير الجارى.
فخلال حملته الانتخابية ومنذ إعادة انتخابه، عمل الرئيس السابع والأربعون للولايات المتحدة فى كافة الاتجاهات على مضاعفة التهديدات التي تشكلها الحماية التجارية من خلال فرض رسوم جمركية عقابية، وأيضا من خلال الوعود بخفض الضرائب والإنفاق العام، وعمليات الإجلاء الجماعى لملايين المهاجرين غير الشرعيين.. وهناك العديد من الإجراءات التى قد يكون لها آثار سلبية على الاقتصاد الأمريكى وعلى العلاقات التجارية الدولية.
وبعيدا عن الإعلانات المكتوبة بالأحرف الكبيرة على شبكات التواصل الاجتماعى، لم يقدم ترامب برنامجا محددا بشأن الاتجاه الذى يريد أن يعطيه للاقتصاد الأول في العالم. ولم يتبق للمحللين سوى الوعود والتهديدات التى أطلقت خلال الحملة الانتخابية لبناء توقعاتهم للعام المقبل.
فعلى سبيل المثال، سلط البنك المركزى الأمريكى في اجتماعه الأخير الضوء على الصعوبات التى يواجهها خبراؤه فى وضع التوقعات لعام 2025، “نظرا لعدم اليقين فيما يتعلق بتفاصيل نطاق التغييرات المحتملة وتوقيت تنفيذها خاصة السياسات المتعلقة بالهجرة والضرائب والتنظيم وآثارها المحتملة على الاقتصاد، خاصة فيما يتعلق بالتضخم، الذى بدا أخيرا تحت السيطرة في الأشهر الأخيرة.
وقال بيير أوليفييه جورينشا كبير الاقتصاديين لدى صندوق النقد الدولى :” إن السياسة الاقتصادية التى يتبناها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تنطوى على مخاطر تضخمية”.
فيما قال الخبير الاقتصادي جارى هوفباور، المتخصص فى التجارة والضرائب في معهد بيترسون للاقتصاد الدولى – وهو مؤسسة بحثية -:”يريد ترامب خلق أقصى قدر من عدم اليقين والفوضى فهو يعتقد أنه يزدهر فى ظل سياسات غير مستقرة.”
وبسبب إمكاناتها التخريبية، أو حتى التدميرية، ولكن أيضا بسبب كل حالة عدم اليقين المحيطة بها، فإن “اقتصاديات ترامب” تحتل المرتبة الرابعة بين أكبر المخاطر التي حددتها مجموعة أوراسيا لهذا العام 2025. فيما جاء الانفصال بين الولايات المتحدة والصين، الذى وعد به ترامب خلال حملته الانتخابية، باستخدام الحواجز الجمركية كمنشار آلى، فى المرتبة الثالثة. ولكن فى حين أن نطاق وأساليب سياساته لا تزال غير واضحة، فإن طموح ترامب “واضح تماما”.
كما يشير إلفير فابرى، الباحث في مجال الجغرافيا السياسية للتجارة فى معهد جاك ديلور إلى أن “الهدف الرئيسى من هذه السياسة هو “التحول الهيكلى للاقتصاد الأمريكي والعلاقات التجارية بين الولايات المتحدة وباقى العالم”.
ويعد الإجراء الاقتصادى الرائد الذى اتخذه هو تطبيق الحواجز الجمركية، أي فرض ضريبة على الواردات من دول أخرى.. ففى عام 2018، فرض ترامب باسم حماية الصناعات الأمريكية الاستراتيجية، رسوما جمركية على واردات الصلب والألومينوم من جميع أنحاء العالم.. وفى الوقت ذاته، بدأ حربا تجارية مع الصين بفرض رسوم جمركية على سلع تكنولوجية وصناعية وزراعية تزيد قيمتها على 360 مليار دولار، متذرعا بالممارسات غير العادلة وسرقة الملكية الفكرية.
وأبقى الرئيس المنتهية ولايته، الديمقراطى جو بايدن، على بعض هذه التعريفات الجمركية، خاصة تلك التي تستهدف الصين. وهو ما يعكس استمرارية معينة في الموقف الأمريكى تجاه ممارسات بكين التجارية، وعدم الثقة فى التجارة الحرة.
غير أن ترامب يفكر هذه المرة فى أمر أكبر من ذلك بكثير، متعهدا بفرض رسوم جمركية عالمية ـ على جميع المنتجات الواردة من جميع دول العالم ـ تصل من 10% الي 60% على المنتجات الصينية كما ستفرض الولايات المتحدة ضريبة إضافية تبلغ نسبتها 25% على المنتجات الكندية والمكسيكية، ما لم تتخذ أوتاوا ومكسيكو تدابير للحد من الهجرة والاتجار بالمخدرات.
ومن شأن هذه الرسوم الجمركية أن تسهم في تعطيل تدفقات التجارة، وزيادة التكاليف على المستهلكين الأمريكيين، ومن المرجح أن تؤدي إلى ردود فعل انتقامية من جانب الدول المستهدفة.
بدورها، أكدت إلفير فابري أن ترامب سيستخدم أداة الرسوم الجمركية بطريقة وحشية وممنهجة، ليجعل منها وسيلة للإكراه. وفي حالة تطبيقها، فإن هذه الرسوم الجمركية الشاملة قد “تؤدي إلى حرب تجارية عالمية في عام 2025” وتؤدي إلى “خسارة في الناتج المحلي الإجمالي العالمي وإعادة نشر التجارة الدولية بشكل عام”، كما حذرت مذكرة صادرة عن مركز الدراسات المستقبلية والمعلومات الدولية والمركز الفرنسي للبحوث والخبرات في مجال الاقتصاد الدولي.
وذكر التقرير الذي نشرته مجموعة أوراسيا أن الانفصال غير المنضبط بين الولايات المتحدة والصين من شأنه أن يعطل سلاسل التوريد العالمية ويحتم إعادة تنظيم تدفقات التجارة، مما يزيد التكاليف على الشركات والمستهلكين في جميع أنحاء العالم”. وفي مواجهة فرض ضرائب باهظة على الوصول إلى السوق الأمريكية، قد تغمر السلع الصينية الاتحاد الأوروبي.
إن ترامب، الذي يحب أن يطلق على نفسه لقب “رجل التعريفات الجمركية”، مهووس بالعجز التجاري للولايات المتحدة، والذي يعتبره بمثابة نقطة ضعف البلاد في مواجهة القوى المتنافسة – خاصة بكين، التي بلغ فائضها التجاري ما يقرب من 1000 مليار دولار في عام 2024، وهو رقم قياسي.. وهو مقتنع أيضا بأن هذه الحماية الجمركية من شأنها أن تسمح بازدهار فرص العمل في قطاع التصنيع في الولايات المتحدة: فوفقا لمنطقه، فإن الحواجز الجمركية من شأنها أن تجعل المنتجات الأجنبية باهظة الثمن إلى الحد الذي يشجع الإنتاج المحلي.
وفي هذا الصدد قال جاري هوفباور: “إن الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب في عام 2018، على العكس من ذلك، كان لها تأثير سلبي على وظائف التصنيع وعلى العمالة بشكل عام في الولايات المتحدة”. مستندا في ذلك على استنتاجات خبراء الاقتصاد في بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، أما بالنسبة للمكاسب المتواضعة التي تم تحقيقها من خلال حماية المنتجين المحليين من المنافسة الأجنبية، فقد تم تعويضها بشكل أكبر من خلال زيادة تكاليف الإنتاج بالنسبة للمصنعين الذين استخدموا، على سبيل المثال، الصلب، ومن خلال التعريفات الجمركية التي فرضت ردا على ذلك. ومن المرجح أن تكون سياسات ترامب مدمرة بالقدر ذاته هذه المرة.”
وبحسب صحيفة “واشنطن بوست”، فإن إدارة ترامب المستقبلية تدرس حاليا ليس فرض تعريفات جمركية عالمية فحسب، بل فرض رسوم جمركية فقط على قطاعات معينة تعتبر ضرورية للأمن القومي أو الاقتصادي – مثل صناعة الدفاع، والذكاء الاصطناعي، والإمدادات الطبية الأساسية، والطاقة، وما إلى ذلك على الأقل في البداية. وبعد نشر هذا المقال علق ترامب عليه قائلا: “إنها أخبار كاذبة”، مؤكدا أنه لا ينوي تقليص طموحاته بشأن التعريفات الجمركية.
وفي 13 يناير، أكد موقع “بلومبرج” الاخباري الامريكي أن فريق ترامب يدرس زيادة الرسوم الجمركية تدريجيا، شهرا تلو الاخر للحيلولة دون ارتفاع التضخم.
ورأى جاري هوفباور أن “هذا من شأنه أن يمنحه مساحة للتفاوض أو التهديد أو استمالة الدول الأخرى”. ولكن مهما كانت الطريقة، فإن هذه السياسة “مقلقة بالنسبة للاقتصاد العالمي، فبالإضافة إلى الاضطرابات في دول معينة، فإنها يمكن أن تخلق اضطرابات قوية في القطاعات الأمريكية التي تعتمد بشكل كبير على الواردات، في بعض الأجزاء أو بعض المواد..”
فكما يشير تحليل حديث لصحيفة /فاينانشال تايمز/ البريطانية المتخصصة في الشئون الاقتصادية، فإن حركة البضائع معقدة للغاية: فعندما تصنع شركة أبل هواتف آيفون، تستخدم الشركة سلاسل توريد تشمل ما لا يقل عن 43 دولة. وقد تعبر أجزاء من سيارة تباع على أنها “صنعت في أمريكا” الحدود المكسيكية سبع أو ثماني مرات أثناء عملية التصنيع.
ويأمل دونالد ترامب فى استغلال الضرائب التي يتم تحصيلها على هذه الواردات للتعويض عن التخفيضات الضريبية الجديدة على كل من الشركات والأفراد. ومن المتوقع أن يسارع الجمهوريون في الكونجرس إلى تمديد الإعفاءات الضريبية للشركات والعائلات الاكثر ثراء التي تم وضعها خلال فترة ولاية ترامب الأولى في عام 2017 وكان من المقرر أن تنتهي هذا العام الامر الذى احدث عجزا قدره حوالي 4.2 تريليون دولار في خزائن الدولة بين عامي 2026 و2035، وفقا لتحليل حديث أجرته وزارة الخزانة الأميركية. ومن شأن مثل هذا الإجراء أن يؤدي إلى تفاقم عجز الموازنة الأمريكية بشكل كبير، مما يساهم في زيادة الدين العام ــ الذي سيصل في عام 2024 إلى مستوى قياسي يتجاوز 35 تريليون دولار، أو نحو 123% من الناتج المحلي الإجمالي ــ مؤديا في نهاية المطاف إلى ضغوط تضخمية.
ويؤكد جاري هوفباور أن “الرسوم الجمركية، مهما كانت ضخمة، لن تعوض التخفيضات الضريبية”. وبحكم التعريفات الجمركية، فإن الواردات سوف تنخفض، مما يؤدي إلى تقليص الإيرادات من هذه الضرائب معها”.
وأشارت مذكرة حديثة صادرة عن معهد بيترسون إلى أن الإيرادات الناتجة عن الرسوم الجمركية التي أعلنها ترامب ستبلغ نحو 225 مليار دولار سنويا.. فيما رأى مؤلفو المذكرة أن هذا الرقم “مبالغ فيه”، لأنه “لا يأخذ في الاعتبار انخفاض النمو بسبب الصدمات الاقتصادية الحتمية الناجمة عن الإجراءات الانتقامية ضد المصدرين الأمريكيين، والخسائر التي تكبدها قطاع التصنيع المعتمد على الواردات”.
المصدر: أ ش أ

