تشهد دولة جنوب السودان منذ استقلالها عام 2011 صراعات متجددة، منها النزاع بين الشرعية السياسية والهياكل القانونية الهشة، إذ إن محاكمة رياك مشار النائب الأول للرئيس سلفا كير دي ميارديت ليست مجرد إجراء قضائي محلي، بل انعكاس لمعادلة معقدة تجمع بين إرث الحرب الأهلية وتوازنات السلطة، واستحقاقات العدالة الانتقالية التي لم تكتمل بعد. ففي قاعة “الحرية” جلس مشار وسبعة من حلفائه، من بينهم وزير النفط السابق بوت كانج شول والفريق جابرييل دوب لام، لمواجهة اتهامات ثقيلة تتنوع بين الخيانة والقتل وجرائم ضد الإنسانية وتمويل الإرهاب.
هذه التهم ارتبطت بأحداث مارس الماضي، عندما اجتاحت ميليشيات “الجيش الأبيض” ذات الطابع الإثني المكونة من شباب قبيلة النوير قاعدة عسكرية داخل مدينة الناصر بولاية أعالي النيل، وأسفرت عن مقتل أكثر من 250 جندياً بينهم ضباط بارزون. بالنسبة إلى الحكومة، كان الهجوم دليلاً على استمرار ولاءات مسلحة خارجة عن سيطرة الدولة، تقف خلفها قيادات سياسية وعسكرية متهمة بتقويض اتفاق السلام الموقع عام 2018. ومن هنا تحركت وزارة العدل بقيادة المستشار العام دينق أشويل أديجا لتقديم الملف إلى محكمة خاصة، مدعومة بأجهزة الأمن الداخلي ومجموعة من المحامين المستقلين.
وسرعان ما تداخل البعد القانوني للمحاكمة مع الحسابات السياسية، فقد رفضت المحكمة برئاسة القاضي جيمس ألالا دينق حيثيات الدفاع القائلة بعدم دستورية الإجراءات، مؤكدة أن الدستور الانتقالي لعام 2011 المعدل يمنحها الولاية الكاملة. وشددت على أن الحصانة تقتصر على رئيس الجمهورية وليس نائبه، وهو ما أبقى مشار تحت طائلة الملاحقة.
في المقابل، استند فريق الدفاع إلى بنود اتفاق السلام الذي نص على إنشاء محكمة هجينة برعاية الاتحاد الأفريقي، معتبرين أن اللجوء إلى قضاء محلي منحاز يقوض جوهر المصالحة الوطنية، فقد جاء مرسوم الرئيس سلفا كير خلال سبتمبر الماضي بتعليق مهام مشار بدعوى تهديد الأمن القومي، ليؤكد أن القضية ليست محض قانونية، بل جزء من صراع مستمر بين جناحين في السلطة، يعكسان استقطاباً إثنياً عميقاً.
تعود جذور الصراع بين الرئيس سلفا كير ونائبه السابق رياك مشار إلى مطلع تسعينيات القرن الماضي، حين انشق مشار عن “الحركة الشعبية لتحرير السودان”، التي كان يقودها الزعيم جون قرنق دي مابيور. وخلال عام 1991، أسس مشار مع لام أكول ما عُرف بـ”فصيل الناصر”، في تحدٍ مباشر لقيادة قرنق. ورفع الفصيل شعار استقلال الجنوب عن الشمال، لكنه خلال الوقت ذاته نسج علاقات مع الخرطوم التي تبنت استراتيجية “فرق تسد”، فمدت الفصيل بالدعم العسكري والمالي لمواجهة الحركة الأم.
كان أبرز مخرجات ذلك الانشقاق مذبحة بور، بعدما ارتكبت قوات ناصر مجازر بحق آلاف المدنيين من قبيلة الدينكا، قبيلة كير، مما أرسى إرثاً ثقيلاً من الدم والثأر ما زال يثقل مسار المصالحة الوطنية حتى اليوم.
هذا الشرخ التاريخي انعكس على علاقة الرجلين طوال مسيرة الدولة، فعلى رغم تقاسمهما السلطة ضمن حكومات وحدة متعاقبة، ظل انعدام الثقة يحكم تعاملهما. وبعد استقلال جنوب السودان، أقال كير مشار متهماً إياه بتدبير انقلاب، لتندلع حرب أهلية دامية خلال ديسمبر 2013، حملت طابعاً قبلياً بين الدينكا والنوير، وأسفرت عن مقتل ما يقارب 400 ألف شخص وتشريد أكثر من مليوني مواطن.
أعاد اتفاق السلام الموقع عام 2018، مشار إلى منصبه كنائب أول للرئيس، لكنه لم ينفذ على نحو كامل. وتعثرت ترتيبات دمج القوات وتسريح الميليشيات، ولم تنشأ المحكمة المختلطة المقررة لمساءلة مرتكبي الانتهاكات، وتأجلت الانتخابات الموعودة مرات عدة. وهذه الثغرات أبقت بنية الدولة هشة، وأبقت الصراع السياسي محتدماً، فبدلاً من أن يكون الاتفاق إطاراً لتجاوز الماضي، تحول إلى ساحة جديدة لتصفية الحسابات، إذ استخدم كير سلطته لترسيخ هيمنته وتفكيك معسكر خصومه.
لا يختلف كير ومشار في تطلعهما إلى جنوب السودان المنفصل والمستقل عن الدولة الأم، لكن الاختلاف يكمن في تصور كل منهما لدوره القيادي. كير يستمد شرعيته من إرثه العسكري وقاعدته بين الدينكا، أكبر المجموعات الإثنية (نحو 35 في المئة من السكان)، أما مشار فيعتمد على تمثيله للنوير ثاني أكبر المجموعات (نحو 16 في المئة). ويرى نفسه وريثاً شرعياً لنضالاتهم. وهكذا، لا ينحصر الصراع في نزاع على السلطة فحسب، بل يعكس تنافساً عميقاً بين هويتين إثنيتين تتنازعان وراثة الدولة الناشئة.
يرى كثر أن هذه المحاكمة بينما تقدم باعتبارها مساءلة قانونية، لكنها في الواقع ذروة حملة انتقامية شنها الرئيس سلفا كير ومجلس شيوخ الدينكا، لتهميش رياك مشار وتشويه سمعته أو حتى إقصائه جسدياً من المشهد السياسي في جنوب السودان. وعدوها أداة للاضطهاد السياسي، تتخفى بغطاء قانوني هش. وهناك عوامل عدة أدت إلى استمرار الخلافات، أولاً يحذر المراقبون من أن القيود المفروضة على مسار المحاكمة تعزز الاعتقاد بأنها ذات دوافع سياسية، ومن غير المرجح أن تكون محايدة، بل إنها أججت التوترات الإثنية بين قاعدة مشار من النوير وأنصار كير من الدينكا. ويظل انعدام الثقة بين الرجلين عميقاً، على رغم أن كير ومشار، وكلاهما في السبعينيات، كانا جزءاً من الحركة الشعبية التي ناضلت للاستقلال. إقالة كير لمشار عام 2013 فجرت الحرب الأهلية، وما تلاها من تأجيلات متكررة للانتخابات غذى شعوراً بأن كير يسعى إلى البقاء رئيساً مدى الحياة.
ثانياً، تصنف دولة جنوب السودان بين أكثر دول العالم فساداً، إذ تحولت مؤسسات الدولة إلى أدوات لنهب الثروة العامة. وكشف تقرير الأمم المتحدة الموسع “نهب أمة… كيف أطلق الفساد المستشري العنان لأزمة حقوق إنسان في جنوب السودان”، أن أكثر من 25 مليار دولار من عائدات النفط منذ الاستقلال اختفت بفعل المحسوبية والصفقات الغامضة. هذه الدوامة المالية، المدعومة بالإفلات من العقاب، أفرغت الدولة من مواردها الأساس، وحولت النفط إلى مصدر لتمويل الولاءات السياسية بدلاً من التنمية.
المصدر: وكالات

