يدخل الروائي العراقي، راسم قاسم، في رواية «شمدين»، الصادرة هذا العام (2017) عن دار الساقي والحائز جائزة الطيب الصالح عن مجموعته القصصية «دويّ على إيقاع متّزن»، إلى عالم الرواية الجديدة بوصفه إطارها المكاني: قرية رشتي كانت تغفو في سهل جبل سنجار شمال مدينة الموصل، بلمحة خاطفة، ولكنه لا يلبث أن يضع القارىء في صلب المأساة؛ إذ يعمد إلى رسم مشهد، من قرية شمدين، حيث جثث الجنود أو المقاتلين المتشددين الذين أردتهم الطائرات الأجنبية لتجبر جحافلهم على الانسحاب من سنجار ذي الطابع الفريد، والجماعة الدينية السابقة للمسيحية والإسلام، والكائنة في العراق منذ ما يقارب الألفين والثلاثمئة عام.
الرواية إذاً تستمد أحداثها من الوقائع (التاريخية) المعاصرة والتي لمْ تنته مفاعيلها الى حين إعداد هذه المقالة، على غرار الرواية السياسية أو التاريخية الغربية والشرقية منها، منذ روايات جرجي زيدان التي قبس الروائي فيها من ألكسندر دوما، ووالتر سكوت وتولستوي وغيرهم الكثير.
بيد أنّ لرواية «شمدين» لمؤلفها العراقي راسم قاسم شأنًا آخر؛ فهو يقصد، على الأرجح، إلى تسليط الضوء على مأساة عصرية وعراقية، كانت لا تزال تهزّ العالم بشواهدها وشهادات الفتيات اللواتي نجونَ من أسر الدواعش، وسوقهنّ في سوق النخاسة – وهنّ من جميلات العراق بل أجمل نسائه – والتعرّض لهنّ، وقتلهنّ في حال تمرّدن على أسيادهنّ أو رفضن التخلّي عن دينهنّ، وحملهنّ على الانتحار بأيّ وسيلة دفاعاً عن عرضهنّ وصوناً لحبّهن الذي يعلين من مكانته في نفوسهنّ، على نحو ما فعلت «شمدين الفتاة الجميلة والتي كانت تحبّ شاباً يدعى آزاد وباتت خطّيبته، وتواعدا على الزواج بعد عودته من الموصل وحصوله على مال من عمله اليدوي يكفل له الشروع في حياته الزوجية.
تتألّف الرواية من تسعة فصول، ويعتمد فيها الروائي منهجاً تعاقبياً – بمعنى تعاقب الأحداث التي ينقلها – بصورة انتقائية؛ إذ ينتقل، من الفصل الأول الذي سبقت الإشارة اليه، باعتباره دالاً على نهاية مرحلة العذاب التي آلت اليها قرية «رشتي»، وما تركته من آثار الدمار والجثث والخراب النفسي في من بقي من أهلها والناجين، ولا سيما شمدين التي عادت وحدها من دون أختيها نازك وروناك اللتين أجبرتا على اتباع الديانة الإسلامية، على يد داعش وصارتا من نسائهم حفاظاً على حياتهما، نظير ما أصاب الفتاة سلار وأخاها الفتى المعوّق من عسف وقتل وتعدّ لم يسبق لهم أن ذاقوا مرارتها من زمن مغرق في القدم.
الى الفصل الثاني حيث يستحضر الروائي حالة أهل رشتي قبيل دخول الدواعش الهمج القرية، من حيث عيشهم الهنيّ القائم على الزراعة والأعمال اليدوية البسيطة، وانصراف الفتيات والنساء فيها – وهنّ بغالبيتهنّ العظمى جميلات، على ما يصفهنّ الكاتب – الى رعاية الماشية والاهتمام بشؤون البيوت، وإقامة الصلوات العائدة لديانتهنّ الإيزيدية. إلى أن يبلغ القارىء الفصول الثالث والرابع والخامس وفق لطيف زيتوني (Extradiegetique) وصولاً الى الفصل الثامن، حيث يسرد الراوي خارج الحكاية(معجم نقد مصطلحات الرواية، 2002) ولا ينتمي اليها، تفاصيل مستعادة وموثّقة من شهادات الناجين من يوميات احتلال داعش قرية «رشتي» وهي نموذج لما عاناه سكّان كل القرى في سهل نينوى من استبداد داعش وعنفه الذي لا نظير له. إذًا، كانت هذه الفصول بمثابة أدلّة وشواهد إضافية على الجرائم المتمادية التي اقترفتها عصابات داعش بحقّ الإيزيديين، من قتلهم الناس لمجرّد الظنّة، واحتلالهم بيوتهم والتصرّف بأرزاقهم، وتهديدهم بالقتل إن هم لم يرتدّوا عن الإيزيدية الى الإسلام، باعتبار الأولى هرطقة وكفراً. وقد شكّلت «شمدين» شخصية أنثوية نموذجية، إذ هي تمثّل سائر أخواتها الإيزيديات اللواتي ساقهنّ داعش بالآلاف سبايا، يوزّع بعضهنّ على قادة «المجاهدين»، ويرسل بعضهنّ الى السوق المستعادة من أوائل عهد الفتوح والغزوات حيث كان يباع العبيد والأسرى من الجواري والغلمان بما يناسب الشخص المعروض للبيع.
واللافت في الرواية أن الكاتب راسم قاسم، إذ يبني روايته على منهج معلوم، ويختط لها إطارها المكاني والزماني، ويصف عادات قرية «رشتي» وتقاليدها ومعتقداتها الدينية، ويبيّن ملامح حياة سكّانها المسالمين والميالين الى احترام الجيران الآخرين المختلفين ديناً وعادات وأساطير ذات جمالية بيّنة، فإنه ليضع القارىء أمام النقيض الذي يُسقط على ذلك الإطار كأن من مكان بعيد، لا يمتّ الى الواقع العراقي بصلة، واقع التنوع والاختلاط والتسامح السالف بين مواطنيه؛ إنه داعش وسلطانه الديكتاتوري الماحق كلّ فكرة حديثة أومظهر حياة معاصرة. ولكنه، رسم كذلك صورة أخرى للمجاهدين، مختلفة عن صورة الفتك وتمزيق الروابط بين السكان، هي صورة المجاهد عبدالله الفلسطيني الذي «يؤمن بإسلام إنساني، غير إسلام هؤلاء»(ص:120).
وهو من أنقذ شمدين من مصير سبيها، بأن اشتراها وسلّمها إلى مؤسسة الصليب الأحمر حيث الممرضة كلادس والتي تلقفتها بدورها، وأعادتها الى ديارها.
لا شكّ في أن الجهد التوثيقي، الذي قام به الكاتب راسم قاسم، في شأن الإيزيدية ديانة وأسماء وتقاليد وإطاراً جغرافياً، ماثل في الرواية «شمدين» وهو ما يجعلها من الروايات المختصة بإلقاء الضوء على مآسي شعوب وجماعات مما يتشكل منها نسيج العالم العربي (أو الأمة العربية، وفق البعض)، مآس نجمت عن دوامة الحقد والاستبداد والتطرف في آن. ولئن تمكن الروائي من حبك أحداث روايته على نحو ذي صدقية مقبولة فإنه لم يوفق في إخفاء إسترتيجيات كتابته أو كواليس الكتابة؛ إذ كتب في مستهل الرواية:
«لذلك ستكون لنا رؤيتان في هذه الأحداث تسيران معاً هما رؤيتنا للأحداث ومتابعتها، ورؤية شمدين لها من الداخل، وسيكون المساران متداخلين معاً»(ص:6)
وهذا ما لم يجنح اليه أي من الروائيين الحديثين أو المعاصرين، لا لعجز، وإنما لإدراكهم أن سياق الأحداث في الرواية وحده ما ينبىء عن زوايا النظر المتقاطعة والمتصادمة والتي تكشف عن قيم في بنية خطاب المؤلف العميقة. وليس ثمة لزوم لأن نقحم في النص السردي ما يعدّ مابعد سرديًا أو يكشف عن استراتجيات كتابتنا على نحو تلقيني، وإلا أغفلنا دور القارىء النبيه أو المشارك في التأويل، على ما قال أومبرتو إيكو في كتابه «القارىء في الحكاية».
في الاختتام، يمكن القول إن راسم قاسم قد أفلح في رسم صورة مقرّبة عن جماعة الإيزيديين في العراق، ولكن في لحظة صراعية بل مأساوية هزّت وجودهم، ووجدان الكثير من العرب والمسلمين، ونفذت الى ضمائر أهل الأرض بأعلى منابرهم (منبر الأمم المتحدة). وتولد من ذلك شوق الى المزيد عن الإيزيديين وعاداتهم وتقاليدهم ومعتقداتهم وصلاتهم بالأرض، بلاد ما بين النهرين، التي شهدت حضورهم منذ ما يزيد عن الألفين والخمسمئة سنة.
المصدر : الحياة اللندنية