في ظل تفاقم أزمة الديون العالمية وبلوغها مستويات غير مسبوقة تهدد الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في عدد كبير من الدول النامية، يسلّط تقرير البنك الدولي حول الديون الدولية لعام 2024 الضوء على اتساع الفجوة بين تكلفة خدمة الديون والتمويل الجديد، في مشهد يعكس اختلالات عميقة في النظام المالي العالمي.
وفي هذا السياق، قال الخبير الاقتصادي ورئيس المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية في القاهرة الدكتور خالد رمضان، في حديث صحفي إن أزمة الديون لم تعد محصورة بالأرقام والمؤشرات المالية فحسب، بل تحولت إلى تهديد حقيقي للتنمية المستدامة، مع ما يرافقها من تداعيات اجتماعية ومعيشية تطاول الفئات الأكثر هشاشة.
وأوضح أن التقرير يكشف عن تفاقم غير مسبوق في أزمة الديون لدى الدول ذات الدخل المخفوض والمتوسط، إذ بلغت الفجوة بين مدفوعات الديون الخارجية، بما فيها أصل الدين والفوائد، والتمويل الجديد نحو 741 مليار دولار بين عامي 2022 و2024، وهو أعلى مستوى يُسجَّل منذ أكثر من خمسين عاماً. وأضاف أن الدين الخارجي الإجمالي لهذه الدول وصل إلى رقم قياسي بلغ 8.9 تريليونات دولار في عام 2024، في حين دفعت نحو 415 مليار دولار فوائد فقط خلال العام نفسه، وذلك على رغم الانخفاض الجزئي في أسعار الفائدة العالمية.
وأشار إلى أن عام 2024 شهد إعادة هيكلة نحو 90 مليار دولار من الديون الخارجية، وهو أعلى مستوى منذ عام 2010، مع مشاركة دائنين ثنائيين في عمليات خفض وصلت في بعض الحالات إلى نحو 70 في المئة. واعتبر أن هذه الأرقام تعكس ضغوطاً متزايدة على الموارد المالية للدول المدينة، وخصوصاً أن الدين الخارجي يتجاوز 200 في المئة من إيرادات التصدير في 22 دولة تعاني مديونية مرتفعة، ما يحدّ من قدرتها على تمويل التنمية وتحسين أوضاعها الاقتصادية.
وفي ما يتعلق بالتداعيات الاجتماعية والاقتصادية، أشار الى أن عبء الديون يؤدي إلى استنزاف مباشر للموارد العامة، بحيث يتم تحويل جزء كبير من الإنفاق من قطاعات أساسية مثل التعليم والصحة والحماية الاجتماعية إلى خدمة الديون. ولفت إلى أنه في الدول الـ22 الأكثر مديونية، يعاني نحو 56 في المئة من السكان عدم القدرة على تحمّل تكلفة الغذاء الأساسي أو الرعاية الصحية الطويلة الأمد، فيما ترتفع هذه النسبة إلى 66 في المئة في الدول المؤهلة لمساعدات البنك الدولي.
اقتصادياً، رأى أن الاعتماد المتزايد على الديون المحلية، التي نمت بوتيرة أسرع من الديون الخارجية في أكثر من نصف الدول النامية، يرفع مخاطر إعادة التمويل ويضغط على القطاع المصرفي المحلي، ما يحدّ من قدرته على تمويل القطاع الخاص ويعوق النمو الاقتصادي. وأضاف أن ارتفاع أسعار الفائدة على الديون الجديدة، والتي قاربت 10 في المئة عام 2024، فاقم من حدة الضغوط المالية، رغم تسجيل تدفقات إيجابية من مستثمري السندات بلغت نحو 80 مليار دولار صافياً.
وحذّر من أن استمرار هذا المسار قد يؤدي إلى أزمات غذائية وصحية، خصوصاً في الدول المعرضة لصدمات خارجية كالنزاعات المسلحة أو الجوائح.
وفي هذا الإطار، اعتبر رمضان أن الدول النامية باتت في دائرة خطر حقيقية نتيجة تداخل عوامل داخلية وخارجية، من سوء الإدارة المالية والفساد، إلى الصدمات العالمية وارتفاع تكلفة الاقتراض. وضرب مثلاً عن لبنان، حيث بدأت الأزمة الاقتصادية عام 2019 مع انهيار النظام المالي، ما أدى إلى انكماش اقتصادي بنحو 5.7 في المئة في عام 2024، وفق تقديرات البنك الدولي. وأشار إلى أن الدين العام اللبناني تجاوز 150 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، مع ديون خارجية بعشرات مليارات الدولارات، نتيجة سنوات من الإنفاق غير المستدام والاعتماد على الودائع المصرفية لتمويل العجز.
وأضاف أن الصراعات الإقليمية زادت من تعقيد المشهد، إذ قُدّرت أضرار النزاعات في عام 2024 بنحو 8.5 مليارات دولار، مع حاجات إعادة إعمار تصل إلى 11 مليار دولار. واعتبر أن لبنان عالق في حلقة مفرغة، إذ يؤدي ارتفاع الفوائد إلى زيادة مخاطر التخلف عن السداد، ما يحدّ من الوصول إلى تمويل جديد ويفاقم معدلات الفقر التي تطاول أكثر من 70 في المئة من السكان، في إطار ما يُعرف بالفقر المتعدد الأبعاد.
وفي ما يتعلق بسبل المواجهة، أوضح أن البنك الدولي يدعو الدول النامية إلى الاستفادة من الظروف التمويلية العالمية الأكثر مرونة حالياً لإعادة ترتيب أوضاعها المالية، بدلاً من الاندفاع نحو أسواق الديون الخارجية. كما شدد على ضرورة تجنّب الإفراط في الاستدانة المحلية لما لها من تأثير سلبي على الإقراض للقطاع الخاص وزيادة مخاطر إعادة التمويل بسبب آجال الاستحقاق القصيرة.
وأكد أهمية تعزيز الشفافية في إدارة الديون، وتشجيع إعادة الهيكلة الثنائية لتخفيف الأعباء، مشدداً، في ما خص دول مثل لبنان، على الحاجة الملحّة إلى إصلاحات هيكلية، في مقدمها إعادة هيكلة القطاع المصرفي وتعزيز الاستثمار في القطاعات الإنتاجية، إلى جانب بناء احتياطيات مالية قادرة على مواجهة الصدمات المستقبلية.

