تواجه أوروبا لحظة فارقة فى ملامح اقتصادها الخارجى، وسط حصار تجارى مزدوج تمارسه أقوى قوتين اقتصاديتين فى العالم: الولايات المتحدة والصين. ففى وقت تخوض فيه دول أوروبا مفاوضات شاقة مع واشنطن قد تنتهى بفرض رسوم جمركية أشد على صادراتها، تجد نفسها أيضًا أمام زحف تجارى صينى مكثف، وصفه وزير المالية الفرنسى بأنه “يغرق الأسواق ويقتل الصناعات”. فكيف تتعامل القارة العجوز مع هذا الاختناق التجارى المتزايد؟
حصار اقتصادي بالأرقام التى تروي الكثير من القصة: في عام 2024، بلغ إجمالي التبادل التجاري للاتحاد الأوروبي 5.4 تريليون دولار، منها 2.8 تريليون دولار صادرات، و2.6 تريليون دولار واردات، مسجلًا فائضًا تجاريًا بلغ 174 مليار دولار. لكن في مقابل هذا التوازن الكلي، تبرز هشاشة استراتيجية في العلاقات الثنائية مع أكبر شريكين تجاريين: الولايات المتحدة والصين.
بحسب الأرقام، شكّلت هاتان القوتان الاقتصاديتان وحدهما 35% من إجمالي التبادل التجاري الأوروبي مع العالم. فقد وصل حجم التبادل مع الولايات المتحدة إلى 976 مليار دولار، ومع الصين إلى نحو 896 مليار دولار خلال العام الماضي فقط. أي أن أي توتر تجاري مع أي من الطرفين يهدد ثلث الاقتصاد التجاري الخارجي للقارة العجوز.
يقول خبراء إن “الدول الأوروبية بالفعل محاصرة بين قوتين اقتصاديتين عملاقتين”، لكن يبدو أن انفتاح أوروبا الاقتصادي وحجم سوقها يمنحها هامشًا للحركة وقدرة على مقاومة الضغط. ويؤكد أن “الاتحاد الأوروبي، بصفته أكثر انفتاحًا من الولايات المتحدة وأكبر من الصين اقتصاديًا إلى حد ما، يمتلك أدوات للمناورة والردع، سواء عبر سياسات الحماية التجارية أو عبر تعظيم اقتصاده الداخلي”.
الرهانات الأوروبية الصعبة اتفاقيات طويلة وتأثير محدود أوروبا، غير قادرة على التوصل لاتفاق اقتصادي واضح مع واشنطن في المدى المنظور، لأسباب عدة، أبرزها أن المفاوضات التجارية تتطلب سنوات، وثانيًا، لا يمكن الوثوق بالتزام الولايات المتحدة بنتائج هذه المفاوضات. بل أن الاتحاد الأوروبي ربما لا يجب أن يسعى لاتفاق من الأساس في الظروف الحالية، لأن “أي رسوم أميركية ستضر بالجانبين وليس بأوروبا فقط”.
ومع تعثر الاتفاقيات مع واشنطن، تتزايد الضغوط من جهة الصين التي، إن عجزت عن تصدير منتجاتها إلى الولايات المتحدة، ستغرق الأسواق الأوروبية بالبضائع الرخيصة. هذا، بحسب شتاين، “قد يكون له أثر مدمر على المنتجين الأوروبيين”، داعيًا إلى التفكير جديًا في آليات “تعويض أو انتقام تجاري” لحماية الصناعة الأوروبية.
خيارات الرد الأوروبي تأتي بين الدفاع والهجوم الاقتصادي الخيارات المتاحة أمام بروكسل محدودة ومعقدة. فالتصعيد التجاري مع الولايات المتحدة قد يُنظر إليه كتهديد للعلاقة الأهم لأوروبا سياسيًا واقتصاديًا، في حين أن ترك المجال للصين دون ضوابط سيجعل القارة سوقًا مفتوحة لبضائع مدعومة من حكومة بكين، ما يُهدد استدامة صناعات حيوية.
من هنا، يرى خبراء أن التريث والمناورة الذكية قد يكونان أفضل ما تملكه أوروبا حاليًا. وربما يكون من الحكمة، برأيه، “تأجيل التوصل إلى أي اتفاق مع واشنطن حتى تتضح معالم الإدارة الأميركية المقبلة”، خاصة أن مواقف ترامب في السياسة التجارية ليست ثابتة، بل تتبدل تبعًا للحسابات السياسية الداخلية.
يقف الاتحاد الأوروبي في مفترق طرق محفوف بالتحديات. الحصار التجاري المزدوج من واشنطن وبكين يفرض على بروكسل تسريع خطواتها نحو تحقيق مزيد من الاكتفاء الذاتي، وتعزيز سلاسل التوريد الداخلية، دون خسارة شركاءها العالميين. وبينما تحاول أوروبا حماية مصالحها في عالم تسوده النزعات الحمائية والمفاجآت السياسية، يبقى السؤال الكبير: هل تملك القارة العجوز ما يكفي من الأدوات لتجنب التحول إلى ساحة معركة اقتصادية بين العمالقة؟
المصدر: وكالات