فتح لقاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع نظيره المكسيكي أندريس مانويل لوبيز أوبرادور، أمس الأربعاء في العاصمة الأمريكية واشنطن صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين لم تتبلور ملامحها بعد، لكنها حملت الكثير من التكهنات وفتحت المجال أمام الاستنتاجات والتحليلات السياسية بشأن مستقبل العلاقة الثنائية بين البلدين الجارتين المتمتعين بأنجح تعاون على الحدود في العالم، وذلك في إطار الندية المكسيكية المنشودة، ومدى مساهمة هذا اللقاء في وضع حد للعلاقات الملتبسة والمتوترة بين واشنطن ومكسيكو سيتي.
قوبلت زيارة أوبرادور لأمريكا بانتقاد شديد، حيث مشاعر المكسيكيين حيال الرئيس ترامب ليست في حاجة لاستطلاع رأي للوقوف على اتجاهاتها أو عمقها، فمنذ ظهوره في المشهد السياسي جعل من المكسيك المرمى الرئيسي لانتقاداته، وأغدق كل أنواع التهم على أبنائها الذين يهاجرون إلى الولايات المتحدة، فوصفهم بالسارقين والمغتصبين وتجار المخدرات وقاطعي أرزاق الأمريكيين العاطلين عن العمل.
لكن مناسبة اللقاء كما تم الإعلان عنها هي دخول اتفاقية التجارة الجديدة المعروفة باسم “يو.إس.إم.سي.ايه” المبرمة بين المكسيك والولايات المتحدة وكندا حيز التنفيذ بعد تصديق برلمانات الدول الثلاث عليها، لتحل محل أتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (نافتا) التي ألغاها ترامب عقب وصوله إلى السلطة.
وقبل أيام من اللقاء، أعلن وزير الخارجية المكسيكي مارتشيلو إبرار أن سلطات بلاده تمكنت من تقليص تدفق المهاجرين غير الشرعيين إلى الولايات المتحدة، بنسبة 56 % منذ عام 2019 وذلك بفضل بناء حاجز حدودي بين البلدين ممتد بطول 3200 كيلو متر، والذي تحول من وعد انتخابي لترامب إلى خطوة أولى منطقية من أجل تأمين فعلي للحدود التي يسهل اختراقها، مما سيوقف تدفق المخدرات والجريمة والهجرة غير الشرعية إلى الولايات المتحدة، وذلك وفق الرؤية الأمريكية.
كما أن التركيز في السابق كان على السبل التي يمكن من خلالها للولايات المتحدة أن تساعد المكسيك في محاربة الجريمة المنظمة من خلال شراكة بينهما في مجال مكافحة المخدرات، والتي يخصص بموجبها الكونجرس مبلغ 2.5 مليار دولار لمبادرة ميريدا، وهو (برنامج مساعدات وقعه الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش عام 2007 حيث يتم بموجبه تزويد أجهزة إنفاذ القانون المكسيكية بالمعدات والتدريب) إلا أنه على المكسيك الآن أن تثبت لجارتها العظمى انها “محظوظة” لأن لها صديقة على حدودها الجنوبية.
فهواجس العلاقة بين الولايات المتحدة والمكسيك وما نشأ عنها من تداعيات خلال الفترة الأخيرة، تتقدم في التحليلات السياسية على كل الملفات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي فتحها وصول أول رئيس يساري في تاريخ المكسيك الحديث للحكم، حيث لا يستبعد كثيرون من المراقبين السياسيين ألا تكون الإجراءات التي اتخذتها واشنطن مؤخرا في علاقتها مع المكسيك وليدة النهج الذي يتبعه ترامب في سياسته الخارجية فحسب، بل إنها تأتي في سياق المواقف الكلاسيكية التي تعتمدها الإدارات الأمريكية المتعاقبة، للتعامل مع الحكومات اليسارية في المحيط الإقليمي، الذي تعتبره حيويا لمصالحها الاستراتيجية.
فلكل من طرفي المعادلة (أوبرادور وترامب) وجهة نظر يستثمرها لصالحه، ففيما يحاول الرئيس الأمريكي استثمار علاقات بلاده مع المكسيك في معاركه السياسية الداخلية، خاصة وأن هذا اللقاء يأتي قبل 4 شهور من الانتخابات الأمريكية المقررة في شهر نوفمبر القادم، فإن الرئيس المكسيكي يدرك أن المواجهة الصدامية مع الولايات المتحدة معركة خاسرة على كافة الأصعدة من بدايتها، وأن مفاتيح الاستثمارات الأجنبية التي يحتاج إليها الاقتصاد المكسيكي أغلبها في (واشنطن).
من هنا كان قبول الرئيس المكسيكي لمعظم الشروط التي فرضتها الولايات المتحدة في الاتفاق الأخير حول موضوع الهجرة لوقف تنفيذ إجراءات فرض الرسوم الجمركية التصاعدية على الصادرات المكسيكية، وهي الشروط التى سبق أن رفضها الرئيس المكسيكي السابق إنريكي بينا نييتو، الذي انتهت مدة رئاسته قبل عامين.
وفي الأوساط السياسية المكسيكية، هناك من يحذر من أن القبول بكل الشروط التي فرضتها (واشنطن) يمكن أن تضاف إليها شروط أخرى في حال العودة إلى طاولة المفاوضات، الأمر الذي من شأنه أن يحقق الحلم الذي يراود الحكومات الأمريكية منذ عقود بتحويل المكسيك إلى بلد مستضيف رغما عنه للاجئين من الدول المجاورة، والذين تتوقع المنظمات الدولية أن يرتفع عددهم في السنوات المقبلة.
وكانت العلاقات بين أمريكا والمكسيك قد وصلت إلى أدنى مستوياتها بعد وصول ترامب والإدارة الأمريكية الجديدة إلى البيت الأبيض وما تبع ذلك من قرارات متعاقبة، بدءا من الإصرار على بناء جدار فاصل على طول الحدود، مرورا بالخروج من اتفاق التجارة الحرة مع المكسيك وكندا، وصولا إلى التهديد بفرض رسوم جمركية تدريجية على الصادرات المكسيكية، إذا لم تبادر الجارة الجنوبية إلى وقف تدفق قوافل المهاجرين عبر أراضيها إلى الولايات المتحدة.
الأزمة الأسوأ فى تاريخ العلاقات بين البلدين، والتي أثارت غضب واستياء المكسيك تولدت عندما زاد التوتر بين الولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك على خلفية قرار البيت الأبيض بناء جدار حدودي، وسعى الرئيس ترامب على إجبار المكسيك على المشاركة في دفع تكاليفه عبر اقتراح فرض ضريبة بقيمة 20 % على الصادرات المكسيكية.. ويرى بعض المراقبين أن الخلاف حول بناء الجدار كان الأزمة الدبلوماسية الأولى التي لاحقت ترامب بعد أيام من دخوله البيت الأبيض.
وعلى إثر ذلك.. أعلن الرئيس المكسيكي المنتهية ولايته إنريكي بينا نييتو إلغاء زيارة مقررة لواشنطن، وتعامل مع الأمر على أنه إهانة للمكسيك، وأكد أن المكسيك يمكن أن ترد عبر السماح للمهاجرين القادمين من أمريكا الوسطى بعبور الحدود.
ويرى الخبير في العلاقات الأمريكية المكسيكية بجامعة تارلتون بولاية (تكساس) خيسوس فيلاسكو أن تلك الأزمة تعدت في شدتها الأزمة السابقة لها، والتي حدثت عام 1985 عندما قامت عصابة مخدرات بتعذيب وقتل عنصر من إدارة مكافحة المخدرات الأمريكية، مما دفع (واشنطن) إلى إغلاق الحدود لفترة وجيزة.
المصدر: وكالة أنباء الشرق الأوسط (أ ش أ)