للغة كائن حي دائمًا ما يتغير”.. هكذا لخّص الكاتب المصري، أنطون ميلاد، الفلسفة التي أقام عليها أول دراسة بحثية وصفية عن اللغة المنطوقة بين كافة أفراد الشعب المصري منذ مهد التاريخ.
الدراسة التي صدرت مؤخرًا في كتاب بعنوان “اللغة المصرية الحديثة” تعد نواة تأسيسية لمجال بحثي كامل في علوم اللغويات المتخصصة في اللسان المصري الحديث، كما تستهدف فض الالتباس السائد لدى المصريين حول اللغتين المصرية الحديثة (العامية) والعربية (الفصحى).
وجاء الكتاب في أربعة فصول تشمل أركان اللغة الأربعة وهي “الأصوات” و”الكلمات” و”القواعد” و”الدلالة”.
كما تضمن الكتاب قسمًا لعدة ملاحق تتضمن قاموسًا لبعض الكلمات المستخدمة في البحث وبعض الكلمات ذات الأصول المصرية، وبعض الكلمات التي تختلف دلالتها في اللغة العربية الفصحى واللغة المصرية الحديثة والأبجدية القبطية (تشتق من الأحرف اليونانية)، وبعض من الرموز الهيروغليفية (المصرية القديمة)، وبعض مصطلحات علم اللغة، وأبجدية مقترحة للغة المصرية الحديثة.
أما مقدمة الكتاب فتتكون من عدة مقالات تتحدث عن علاقة اللغة بالهوية وأهمية اللغة في نهضة الشعوب ومقال تحليلي نقدي للأسماء المنعوت بها اللغة المصرية الحديثة.
ويوضح الكتاب كيفية سقوط اللغة والهوية المصرية قبيل احتلال المقدونيين (808 ق.م – 309 ق.م) لمصر إذ انقسم المصريون فيما بينهم لقسم يؤيد المقاومة الشعبية للمحتل الفارسي وآخر يؤيد دعم الإمبراطورية المقدونية، وبعد وقوع الاحتلال المقدوني (القرن الرابع قبل الميلاد) تم تنصيب الإسكندر الأكبر ابنا للإله آمون ( إله الشمس والريح والخصوبة) ليحصل من الكهنة على شرعية حكم مصر.
وهكذا جاءت الضربة القاتلة لمقاومة المحتل بأيدٍ مصرية وتم تحويل لغة مصر الرسمية إلى اللغة اليونانية، لكن المصريين تركوا اللغة اليونانية وبدأوا في كتابة دواوينهم باللغة العربية، ليظهر هجين لغوي خاص بمصر عبارة عن مزيج بين اللغتين القبطية والعربية.
لذلك يرى البعض أن اللغة المصرية الحديثة ما هي إلا مجموعة أخطاء لغوية مغايرة للمعايير اللغوية التي يجب أن تكون عليها اللغة العربية.
وأوضح الكتاب أن هؤلاء يؤمنون بأن للغة قواعد ثابتة يجب على البشر الناطقين بها عدم الانحراف عنها، ولكن أنطون ميلاد اختلف معهم في هذا الطرح لأنه يرى أن البشر اخترعوا اللغة كي تمكنهم من التواصل والتعبير عن احتياجاتهم، وبما أن البشر يتطورون واحتياجاتهم تتطور معهم أيضا أصبح من المنطقي أن تتطور اللغة وتخضع لبعض المتغيرات.
ولفت ميلاد إلى أن للغة المصرية الحديثة عدة مسميات أبرزها “اللهجة المحلية” و”تطور اللغة المصرية” و”لغة عامية”، كما أشار إلى أنه “من لا يعرف لغته لا يعرف الغاية من وجوده” لذلك من الضرورة أن تعي الشعوب ماهية لغتها وتفهمها جيدا كي تتمكن من فهم الخلفيات الثقافية لتلك الشعوب ومن ثم النهوض بها.
وتضم هذه اللغة 7 لهجات هي : “اللهجة القاهرية (نسبة لسكان العاصمة القاهرة)، ومجموعة لهجات الدلتا (سكان دلتا النيل/شمال)، ومجموعة لهجات القناة (شمال شرق)، واللهجة السكندرية (نسبة إلى مدينة الإسكندرية / شمال)، اللهجة السيناوية (نسبة إلى سيناء /شمال شرق)، لهجة النوبة (جنوب)، ومجموعة لهجات الصعيد (المحافظات الجنوبية)”.
وأثبتت الدراسات اللغوية التي وثّقها الكتاب أن الكثير من المفردات التي نستخدمها اليوم في اللغة العربية الفصحى هي في الحقيقة ذات أصول مصرية خالصة، فعلى سبيل المثال نجد المصريين هم أول من حددوا الاتجاهات بالقبلي (المحافظات الجنوبية) والبحري (دلتا النيل) بدلا من الشمالي والجنوبي، ونقل العرب هذه التسميات عن المصريين.
كما لفت الكتاب إلى أن هناك مصطلحات تستخدم حتى اليوم في اللغة المصرية الحديثة وجذورها تضرب في اللغتين القبطية والمصرية القديمة ومن هذه الكلمات “لُكْلُك” التي تستخدم لنعت الشخص كثير الكلام، و”لِمِضْ” التي يصف بها المصريون الشخص المجادل.
لكن مؤلف الكتاب حذّر في الوقت نفسه مما يعتبرها “حربًا باردة” تخوضها اللغة المصرية ضد محاولات محوها أو خلجنتها مشن خلال ضخ مواد إعلامية خليجية وسورية، مستغلين “جهل” الشعب المصري بلغته الخاصة
المصدر: وكالات