في صباح ربيعي من يوم 8 مارس عام 1932، وُلدت سميحة عثمان أيوب في شارع القضاعي بحي شبرا العريق، الحي الذي اختصر مصر كلها في زواياه، وشكّل البذرة الأولى لشخصية استثنائية ستصبح لاحقاً سيدة المسرح العربي.
نشأت في كنف أسرة ميسورة، كان والدها موظفاً رفيع الشأن بوزارة المالية حتى بلغ منصب وكيل وزارة، بينما كانت والدتها “جنات”، رغم حرمانها من التعليم، عاشقة للأدب تقرأ لجوته وشكسبير والمنفلوطي. هذا العشق الأدبي انتقل إلى سميحة أيوب التي كانت تخبئ الروايات داخل كراريس المدرسة، لتكون الكلمات والحكايات أول نوافذها نحو عالم الفن.
تنتمي سميحة لعائلة أيوب ذات الجذور التركية، والتي عُرف منها الأمير علي الكاشف أيوب، أحد كبار المتبرعين بأملاكه لأعمال الخير. وبرغم انتمائها لعائلة ثرية، إلا أنها حُرمت من الميراث بسبب اختيارها لفن التمثيل، ذلك الطريق الذي عشقته منذ الطفولة حينما كانت تتردد على السينما مع أسرتها، وتبكي تأثراً بأفلام مثل “غادة الكاميليا”. بل إنها حلمت بأن تصبح راقصة باليه حينما شاهدت فيلم “الحذاء الأحمر” ، لولا غياب المدارس والمعاهد المتخصصة آنذاك.
كان المسرح القومي، بوقاره وجديته، المحطة الأهم في تشكيل خيالها. هناك شاهدت أعمالاً عالمية قدمتها الفرقة القومية بقيادة خليل مطران، وكانت الممثلة فردوس حسن أول من سحرها على الخشبة، لتتمنى أن تكون مثلها. هذا الحلم لم يكن حلماً عابراً، بل أصبح قدراً تحقق على مدى أكثر من أربعين عاماً من العطاء الفني.
لم تكن حياة سميحة أيوب بعيدة عن عناصر المسرح، ولم يكن ما بينهما مجرد حكاية عشق بل كان هناك أوجه شبه بين حياتها الشخصية والمسرح في أركانه الأربعة:
“النص” تماماً كما يبدأ المسرح بكلمة مكتوبة، تشكلت ملامحها الأولى بالقراءة والكتب. “الإخراج” كما يخطط المخرج لرؤية فنية، خططت سميحة لحياتها بإصرار ووعي جعلها تتجاوز كل العوائق. “التمثيل” أتقنت أدوارها الحياتية كما أدوارها على الخشبة، تعيش الشخصية بوعي كامل بذاتها. و”الجمهور” تفاعلت مع جمهورها حباً واحتراماً، وآمنت بأن المتفرج هو العنصر الأهم في المسرح.
مصادفة غيرت حياتها، حينما ذهبت لمرافقة صديقتها “تماضر” لاختبارات معهد التمثيل، فلفتت أنظار د. محمد صلاح الدين بموهبتها الفطرية. التحقت بالمعهد الذي أسسه زكي طليمات، وتعلمت على يديه. ومنذ بدايتها عام 1947 في فيلم “المتشردة”، بدأت مسيرتها التي توهجت في خمسينات القرن الماضي بأعمال سينمائية شهيرة مثل “شاطئ الغرام”، “أنا وحدي”، و”المبروك”، بجانب مسرحيات راسخة مثل “الأيدي الناعمة”.
في الستينات، تنقلت بين السينما والمسرح والتلفزيون، مقدمة أفلام مثل “أرض النفاق” و”العملاق”، ومسرحيات مثل “العباسة” و”سكة السلامة”، ومسلسلات لا تُنسى مثل “خيال المآتة” و”الساقية”.
في عام 1971، شاركت في فيلم “فجر الإسلام”، وفي 1972 دخلت عالم الإخراج المسرحي بإخراج “مقالب عطيات”، ثم تولت إدارة المسرح الحديث (1972-1975) ثم المسرح القومي لمدة 14 عاماً كاملة منذ عام 1975.
شراكتها الفنية مع الشاعر الكبير فاروق جويدة تمخضت عن أربع مسرحيات بارزة: “الوزير العاشق”، التي ترجمت إلى عدة لغات وكانت موضوعا لرسالة ماجستير في جامعة مدريد باللغة الإسبانية. “دماء على ستار الكعبة”، التي حضر عرضها كبار الشخصيات مثل الإمام محمد متولي الشعراوي والموسيقار محمد عبد الوهاب وأحمد بهاء الدين وأعضاء مجمع اللغة العربية وفي مقدمتهم د. مهدي علام أمين عام المجمع. “الخديوي”، المسرحية التي هزت أركان الثقافة المصرية وعُرضت أكثر من مائة ليلة قبل حجبها لثمانية عشر عاماً. و”هولاكو”، التي لم تُعرض رغم عامين من البروفات بسبب المنع.
قدّمت سميحة أيوب أكثر من 150 عملاً فنياً، وشاركت في أربعة أعمال مسرحية عالمية مع فرق من بريطانيا، روسيا، فرنسا، وألمانيا. حصدت أكثر من خمسين جائزة وتكريماً مرموقاً، من بينها: وسام الجمهورية من الرئيس جمال عبد الناصر، جائزة الإبداع من الرئيس أنور السادات، وسام من الرئيس الفرنسي فاليري جيسكار دستان، وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى من الرئيس السوري حافظ الأسد، وهو أول من أطلق عليها لقب “سيدة المسرح العربي” قائلاً: “تقدمي يا سيدة المسرح العربي”، ووسام العلوم والفنون في عيد الفن المصري.
وكان آخر تكريم نالته في يوليو 2024، حين حملت الدورة السابعة عشرة من المهرجان القومي للمسرح المصري اسمها، تكريماً لمسيرتها، وذلك على المسرح الكبير بدار الأوبرا المصرية.
واليوم، في 3 يونيو 2025، أسدل الستار على مسيرة واحدة من أعظم ممثلات المسرح العربي قاطبة، سيدة المسرح العربي سميحة أيوب، التي لم تكن مجرد فنانة، بل كانت خشبة مسرح تمشي على قدمين، تعطي، تتوهج، وتمنح الحياة روحاً مسرحية خالصة.
المصدر: أ ش أ