اعتبر صوت الشيخ الراحل محمد رفعت، من أهم طقوس شهر رمضان وتربت أجيال كاملة على سماع آذان المغرب بصوته العزب الذى يحمل “رائحة رمضان” التى بدأت تتلاشى بمرور الوقت واختفاء أهم ما كان يميز هذا الشهر الكريم.
وكان الشيخ محمد رفعت أول قارئ تحفل ميكروفونات الإذاعة المصرية بعذوبة صوته، مع نشأتها عام 1934، وفتحت أبوابها أمام رفعت، تلاها العديد من التسجيلات، لكن لم يبق فى رصيد الشيخ لدى الإذاعة سوى 20 ساعة فقط، بعد تعرض معظم التسجيلات للتلف.
الشيخ محمد رفعت أحد القراء المصريين البارزين، الملقب بـ “المعجز”ة و”قيثارة السماء”، ولد يوم 9 مايو من عام 1882 بحي المغربلين بالدرب الأحمر بالقاهرة وتوفي يوم 9 مايو من عام 1950.
التحق بِكُتَّاب مسجد فاضل باشا بـ”درب الجماميز”، فَأَتَمَّ حِفظ القرآن وتجويده قَبْل العاشِرة، وأَدْرَكَتِ الوَفاة والِدَهُ. فوَجَدَ الفَتى عائِلا لأُسْرَتِه، فَلَجَأَ إلى القرآن الكريم يَعْتَصِمُ بِه، ولا يَرْتَزق منه، وأصبح يُرَتِّلُ القرآن الكريم كُلَّ يَوْمِ خميس في المسجد المُواجِه لمكتب فاضل باشا، حَتَّى عُيِّنَ في سِنِّ الخامسة عشرة قارئاً للسُّورة يوم الجمعة.
فذاع صِيتُه، فكانت ساحة المسجد والطُّرُقات تَضِيقُ بالمُصَلِّين لِيَسْتَمِعُوا إلى الصَّوْت الملائِكي، وظلَّ يقرأ القرآن ويُرَتِّلُهُ في هذا المسجد قُرابَة الثلاثين عاما، وَفاءً مِنْه للمسجد الذي بدأ فيه.
لَمْ يَكْتَفِ الشيخ محمد رفعت بِمَوْهِبَتِه الصَّوْتِيَّة الفَذة، ومشاعِره المُرْهَفَة في قراءة القرآن، بل عَمَّقَ هذا بدِراسَة عِلْمِ القراءات وبَعْضِ التَّفاسير، واهْتَمَّ بِشِراء الكُتُب، ودِراسَة المُوسِيقى الرَّقيقة والمَقامات المُوسيقيّة.
وامتاز محمد رفعت بأنه كان عفيفَ النَّفْس زاهِداً في الحياة، وكأنَّه ولد لِخِدْمَة القرآن الكريمة، فكانت مَقُولَتَه:
“إِنَّ سادِن القرآن لا يُمْكِنُ أبَداً أَنْ يُهان أَوْ يُدان” ضابِطَة لِمَسار حياته.
فَقَد عُرضَتْ عليه مَحَطّات الإذاعة الأهلية أَنْ تُذيع له بعض آيات الذكر الحكيم، فرَفَض وقال:”إِنَّ وَقار القرآن لا يَتَماشى مع الأغاني الخليعة التي تذيعها إذاعتكم”. كان الشيخ أَوَّل مَنِ افْتَتَحَتِ الإذاعة المصرية افتتحها بِصَوْتِه العذب، بقرأ:”إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبيناً”، وكان يخشى أن يستمع الناس إلى القرآن وهم في الحانات والملاهي. وقد جاء صوت الشيخ رفعت من الإذاعة نَدِيّاً خاشعا، وكأنه يَرْوي آذانا وقُلوبا عَطْشَى إلى سماع آيات القرآن، وكأنها تقرأ لأوَّلِ مَرَّة، فلَمَعَ اسم الشيخ، وعَشِقَتِ الملايين صَوْتَه، بل أَسْلَمَ البعض عندما سَمِعَ هذا الصوت الجميل. وقد تنافست إذاعات العالم الكبرى، مثل: إذاعة برلين، ولندن، وباريس، أثناء الحرب العالمية الثانية، لِتَسْتَهِلَّ افتتاحها وبرامِجَها العربية بِصَوْتِ الشيخ محمد رفعت، لِتَكْسِبَ الكثير من المُسْتَمِعين، إلاَّ أنه لَمْ يَكُنْ يَعْبَأُ بالمال والثراء، وأَبَى أَنْ يَتَكَسَّب بالقرآن.
لقد تَمَتَّعَ الشيخ بِحِسٍّ مُرْهَفٍ ومشاعِر فَيَّاضة، فَقَدْ كان إنسانا في أعماقه، يَهْتَزُّ وجْدانه هَزّاً عنيفا في المواقف الإنسانية، فقد حَدَث أن ذهب لزيارة أحد أصدقائه المَرْضَى، وكان في لحظاته الأخيرة، وعند انْصِرافه أَمْسَكَ صديقه بِيَدِه ووَضَعَها على كَتِفِ طفلة صغيرة، وقال له “تُرَى، مَنْ سَيَتَوَلَّى تربية هذه الصغيرة التي ستصبح غدا يتيمة؟”
لَمْ يَتَكَلَّمْ محمد رفعت، وفي اليوم التالي كان يَتْلُو القرآن في أحد السُّرادِقات، وعندما تَلا سورة الضُّحَى، ووصل إلى الآية الكريمة “فَأَمَّا اليَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ”، ارْتَفَعَ صَوْتُهُ بالبُكاء وانْهَمَرَتِ الدُّموع مِنْ عَيْنَيْهِ كأنها سَيْل، لأنه تَذكَّر وَصِيَّة صديقه، ثم خَصَّصَ مبلغا من المال لهذه الفتاة حتى كَبُرَتْ وتزوجت.كان رحيما رقيق القلب حتى مع فرسه، ويُوصي أولاده برعايته، وهو إحساس خَرَجَ مِنْ قَلْبٍ مَلِيء بالشفقة والشفافية والصفاء.
شاء الله أن يُصاب الشيخ محمد رفعت بِعِدَّة أمراض منها ضغط الدم والتهاب رئوي وورم في الأحْبال الصَّوْتِيّة، الذي مَنَعَ الصَّوت المَلائِكي النَّقِيّ مِنَ الخروج، ومنذ ذلك الوقت حُرمَ الناس مِنْ صوته، فيما عَدَا ثلاثة أشرطة، كانت الإذاعة المصرية سَجَّلَتْها قبل اشتداد المرض عليه.
وقد حاول بعض أصدقائه ومُحِبِّيه والقادرين أن يَجْمَعُوا له بعض الأموال لِتَكاليف العِلاج، فلم يَقْبَل التَّبَرُّعات التي جُمِعَتْ له، وفَضَّلَ بَيْعَ بَيْتِه الذي كان يَسْكُن فيه في حي “البغالة” بالسيدة زينب، وقِطْعة أرض أخرى، لِيُنْفِقَ على مَرَضِه.
عندئذ تَوَسَّطَ الشيخ “أبو العينين شعيشع” لَدَى الدسوقي أباظة وزير الأوقاف آنذاك، فقَرَّرَ له معاشا شهريا. وشاء الله أن تكون وفاة الشيخ محمد رفعت في يوم الاثنين 9 مايو ، نفس التاريخ الذي وُلِدَ فيه، عن ثمانية وسِتِّين عاما قَضاها في رحاب القرآن الكريم.
الشَّيْخُ “محمد رفْعَت” أَعْظمُ صَوْتٍ قَرَأَ آيات الذكر الحكيم في القَرْن العِشرين، اسْتطاعَ بِصَوْتِهِ العَذْبِ الخاشِع أَنْ يَغْزُوَ القُلوب والوجْدان في قراءَةٍ عذبة خاشعة.. صَوْتُهُ يَشْرَحُ الآيات، ويَجْمَعُ بَيْنَ الخُشوع وقُوَّةِ التأثير، فكان أُسْلوباً فريداً في التِّلاوَة.
إلى وقتنا هذا عندما يذكر الآذان في مصر يذكر معه شيخ المؤذنين الشيخ محمد رفعت، الذي جسد بصوته وأدائه منحى مختلف لطبيعة الأذان عند المسلمين بشكل عام والمصريين بشكل خاص، مطوعا صوته الخالد الذي ينفذ إلى أعماق قلوب الناس فأبكاهم وأشجاهم، وهزهم هزًا، ونال محبة لم يحصل عليها غيره من قراء القرآن والمؤذنين في قلوب المحبين والمتيمين به.
في حياة صاحب الحنجرة الماسية مشاهد، تنم عن تلك المحبة والعشق.
هذا الصوت العذب الصادق كان سببا في اهتداء الكاتبة الأمريكية (مريم جميلة) إلى الإسلام بعد أن سمعت صوت الشيخ من نافذة بيتها في القاهرة، فسألت عن القرآن الذي سمعته وعرفت أنه تلاوة لسورة (مريم) بصوت القارئ محمد رفعت، ثم تعرفت على الإسلام أكثر عندما ذهبت باكستان وأسلمت.
رغم اختلاف اللغات واللهجات والديانات إلا أن الصوت يظل يصنع المعجزات، فصوت رفعت أبى أن ينفذ لقلوب العرب فقط، لكنه اخترق أيضا قلب ذلك الضابط الكندى الذي انتهز فرصة وجوده في مصر -خلال الحرب العالمية الثانية- وطلب من مدير الإذاعة أن يسهل له لقاء الشيخ رفعت، وعندما التقاه بكى الضابط الكندى، وقال: لم أكن أعلم أنه أعمى، والآن عرفت سر الألم العظيم الذي يفيض به صوته العبقرى.
مهما كانت العظمة فلكل أجل كتاب، فقد سادت حالة من الحزن الشديد عندما رحل صاحب الحنجرة الماسية، ورغم صعوبة هذه اللحظة إلا أنه أهب الناس إليها، لذلك استعد أحد الجزارين في ذلك الوقت لهذه اللحظة على طريقته الخاصة، فقرر بناء مقبرة عظيمة في حالة من الصمت وبلا ضجيج تليق بعظمة الراحل الكريم على نفقته كي يدفن بها الشيخ رفعت بعد مماته، وها هي اللحظة التي رحل فيها، كي يقسم هذا الجزار بأن جسد العبقرى لن يدفن إلا في المقبرة التي أعدها له، وعندما رفض ذوو الشيخ الأمر، أصر على أن يحمل نعش الشيخ بنفسه إلى مثواه الأخير.
لم يقف خبر وفاته عند الحدود المصرية، لكنه انتشر في أرجاء المنطقة العربية بأكملها، حتى علم مفتى سوريا في ذلك الوقت، الذي قال ولحيته مبللة من كثر الدموع على رحيله “رحم الله شبابه فقد جدد شباب الإسلام”.
ولا يزال كثيرون يزورون قبر الشيخ محمد رفعت في صمت ليقرأوا الفاتحة على روحه، كما لعهد قريب كانت في القاهرة وأنحاء أخرى متفرقة من البلاد مقاه خصصت لمستمعى الشيخ رفعت قاعات بداخلها ليستمعوا بما تبقى من فن الشيخ في هدوء، بحسب ما جاء في كتاب ألحان من السماء.
إن الشيخ محمد رفعت من أول من أقاموا مدرسة للتجويد الفرقاني في مصر، فكما قيل: القرآن نزل بالحجاز وقرأ بمصر، وكانت طريقته تتسم بالتجسيد للمعاني الظاهرة القرآن الكريم وإمكانية تجلي بواطن الأمور للمتفهم المستمع بكل جوارحه لا بأذنه فقط، والتأثر والتأثير في الغير بالرساله التي نزلت على محمد بن عبد الله رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه فقد كان يبدأ بالإستعاذه بالله من الشيطان الرجيم والبسمله والترتيل بهدوء وتحقيق وبعدها يعلو صوته فهو خفيض في بدايته ويصبح بعد وقت ليس بالطويل غالبا “عاليا” لكن رشيدا يمس القلب ويتملكه ويسرد الآيات بسلاسة وحرص منه واستشعار لآي الذكر الحكيم.
كان جل اهتمامه بمخارج الحروف وكان يعطي كل حرف حقه ليس كي لا يختلف المعنى بل لكي يصل المعنى الحقيقي إلى صدور الناس، وكان صوته حقا جميلا رخيما رنانا، وكان ينتقل من قراءة إلى قراءة ببراعة وإتقان وبغير تكلف وكان صوته يحوي مقامات موسيقية مختلفة وكان يستطيع أن ينتقل من مقام إلى مقام دون أن يشعرك بالاختلاف.
قال عنه الأديب محمد السيد المويلحي في مجلة الرسالة “سيد قراء هذا الزمن، موسيقيّ بفطرته وطبيعته، إنه يزجي إلى نفوسنا أرفع أنواعها وأقدس وأزهى ألوانها، وإنه بصوته فقط يأسرنا ويسحرنا دون أن يحتاج إلى أوركسترا”.
ويقول عنه أنيس منصور “ولا يزال المرحوم الشيخ رفعت أجمل الأصوات وأروعها، وسر جمال وجلال صوت الشيخ رفعت أنه فريد في معدنه، وأن هذا الصوت قادر على أن يرفعك إلى مستوى الآيات ومعانيها، ثم إنه ليس كمثل أي صوت آخر”.
ويصف الموسيقار محمد عبد الوهاب صوت الشيخ محمد رفعت بأنه ملائكي يأتي من السماء لأول مرة .
وسئل الكاتب محمود السعدني عن سر تفرد الشيخ محمد رفعت فقال: كان ممتلئًا تصديقًا وإيمانًا بما يقرأ.
أما علي خليل “شيخ الإذاعيين” فيقول عنه “إنه كان هادئ النفس، تحس وأنت جالس معه أن الرجل مستمتع بحياته وكأنه في جنة الخلد، كان كيانًا ملائكيًّا، ترى في وجهه الصفاء والنقاء والطمأنينة والإيمان الخالص للخالق، وكأنه ليس من أهل الأرض”.
ونعته الإذاعة المصرية عند وفاته إلى المستمعين بقولها “أيها المسلمون، فقدنا اليوم عَلَمًا من أعلام الإسلام”.
أما الإذاعة السورية فجاء النعي على لسان المفتي حيث قال “لقد مات المقرئ الذي وهب صوته للإسلام”!!.
المصدر : النيل للأخبار