في مشهد غير مسبوق في التاريخ الحديث، تخوض روسيا مواجهة اقتصادية ضارية مع المنظومة الغربية، وعلى رأسها الاتحاد الأوروبي، الذي صبّ جام عقوباته على الاقتصاد الروسي منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا.
ومع وصول حزم العقوبات الأوروبية إلى نسختها الثامنة عشرة، وتوسّعها لتشمل قطاعات الطاقة والمال والتجارة الخارجية، بدا أن الغرب قرر الذهاب إلى أقصى حدّ في محاولة لشلّ قدرة موسكو على تمويل عملياتها العسكرية.
ومع ذلك، فإن روسيا، التي وُوجهت بأكثر من 24 ألف عقوبة اقتصادية منذ فبراير 2022، تمكّنت، كما يبدو، من التكيّف مع هذا الحصار، بل وحتى استغلاله لإعادة هيكلة منظومتها الاقتصادية وفق منطق المناعة الذاتية والتبادل غير الغربي. فكيف نجحت موسكو في ذلك؟ ومن يدفع الثمن الأكبر: الاقتصاد الروسي أم الاستقرار الأوروبي؟
الروبل ينتعش.. رغم القيد الغربي
قد تكون أكثر المؤشرات الاقتصادية دلالة على “فشل الحصار” هي قوة الروبل الروسي.
فبعد اضطرابات محدودة في الأسابيع الأولى من الحرب، عاد الروبل للانتعاش، محققًا ارتفاعًا بنسبة 45% أمام الدولار منذ بداية عام 2025. وتمّ تداول الروبل في يوليو 2025 عند مستوى 78 روبل مقابل الدولار الواحد، أي ما يعادل تقريبا سعر ما قبل اندلاع الحرب (75 روبل)، في تحدٍّ صارخ للتوقعات الغربية بانهيار حتمي للعملة الروسية.
فرض الاتحاد الأوروبي وأعضاء مجموعة السبع سقفًا سعريًا على النفط الروسي، وحدّد في أحدث نسخه بنحو 47 دولارًا للبرميل وهو رقم أقل بكثير من سعر السوق، ويهدف إلى تقويض قدرة روسيا على تمويل حربها عبر مبيعات الطاقة.
إلا أن روسيا وخلال أزمة كوفيد-19، أعلنت قدرتها على بناء ميزانية على أساس سعر 20 دولارًا للبرميل فقط، ما يعكس قدرتها المرنة على التكيّف مع انخفاض الإيرادات.
أوروبا تدفع الثمن: أمن الطاقة في مهب الريح
في المقابل، لا يبدو أن أوروبا خرجت سالمة من معركتها العقابية ضد موسكو. فمع سعي الاتحاد الأوروبي للتخلص الكامل من الغاز الروسي بحلول عام 2027، تبرز تحديات كبيرة في البنية التحتية، خاصة في دول مثل ألمانيا، التي لا تزال تعاني من فجوات في مشاريع محطات الغاز المسال.
وقد أجبرت هذه الظروف بعض الدول الأوروبية، كألمانيا، على العودة إلى الفحم الحجري كمصدر بديل للطاقة، ما أثار انتقادات بيئية وأعاد مشهد “أوروبا السوداء” إلى الواجهة.
في مواجهة العزلة الغربية، كثّفت روسيا تحركاتها الاقتصادية في اتجاهات بديلة، لا سيما ضمن تكتّل “البريكس”، الذي يضم اقتصادات ناشئة كالهند، الصين، البرازيل وجنوب أفريقيا. فموسكو وسّعت التعاملات التجارية بعملات غير الدولار واليورو، واعتمدت على الروبل، والروبية الهندية، والدرهم الإماراتي، وغيرها من العملات المحلية في التبادل التجاري، خاصة في قطاع النفط.
وقد تكون هذه “المفارقة الدفاعية” أحد أسباب استمرار القوة الإنتاجية لروسيا رغم العزلة الاقتصادية، وهو ما جعل بعض المحللين يتحدثون عن “اقتصاد حرب مستدام” في موسكو، يساهم في تماسك البنية الاجتماعية رغم الحصار.
الخطر القادم: مواجهة أوروبية روسية على خط النار؟
في خضم التصعيد الاقتصادي، بدأت أوروبا تدق ناقوس الخطر العسكري. تصريحات رئيس أركان الجيوش الفرنسية بأن “روسيا باتت العدو الأول لفرنسا” لم تمر مرور الكرام. ورفع باريس ميزانية الدفاع من 32 مليار يورو إلى 64 مليار عزز القلق من احتمال تحول الحرب الأوكرانية إلى مواجهة مفتوحة بين روسيا وأوروبا، وإن كان ذلك لا يزال مستبعدًا في الأفق القريب.
وإذا كانت إيران قد صمدت رغم سنوات من الحصار، فإن روسيا، بما تمتلكه من موارد طبيعية، وقدرة نووية، ومساحة جغرافية شاسعة، قادرة على امتصاص العقوبات وتطويعها لصالح استراتيجية الاكتفاء الذاتي.
من يتألم أكثر؟
من خلال المعطيات الرقمية والسياسات الواقعية، يبدو أن محاولة أوروبا خنق الاقتصاد الروسي لم تنجح. فموسكو تجاوزت أكثر من 24 ألف عقوبة، وأبقت عملتها قوية، وصادراتها نشطة، وتحالفاتها مرنة، بينما لا تزال أوروبا تبحث عن بدائل طاقة موثوقة وتواجه أزمات بنيوية في أمنها الطاقي.
قد لا تكون روسيا قد خرجت رابحة بالكامل، لكنها بالتأكيد ليست الخاسر الوحيد. أما المعركة الحقيقية، فقد تكون قادمة لا محالة، سواء عبر الاقتصاد أو على الميدان، مع كل ما يحمله ذلك من مخاطر على مستقبل القارة الأوروبية والنظام العالمي بأسره.